آداب حرية الرأي والتعبير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الإسلام هيأ المجتمع الإسلامي كي يمارس هذا الحق بأمور بينا منها:
1- نهي الإسلام عن الاستبداد.
2- الأمر بتبليغ الدعوة إلى الله بإخلاص وحرية، ونبين في هذا اللقاء بتوفيق الله عز وجل بقية هذه الأمور.
3- إقرار الإسلام لمبدأ الشورى:
لقد أصبحت حرية الرأي في عصرنا الحاضر مطلبا نادت به الحضارات الحديثة بعد أن بلغت الإنسانية رشدها، مع أن الإسلام قد منحها هذا الحق منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، ولهذا نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على هذا الحق، ففي أواخر النصف الأول من القرن العشرين، جاء في المادة 19 من هذا الإعلان: «لكل إنسان الحق في حرية الرأي والتعبير عنه، ويتضمن هذا الحق حرية اعتناق الآراء بمأمن من التدخل، وحرية التماس المعلومات والأفكار، وتلقينها وإذاعتها بمختلف الوسائل دون تقيد بحدود الدولة».
لكن الإسلام جعل حرية إبداء الرأي حقا لكل إنسان بضوابطه التي شرعها بحيث تجعله بناء لا هداما، هدفه وغايته مصلحة الفرد والمجتمع يدعو إلى الحق والفضيلة، ويقوم على الحجة والبرهان، ويراعي حقوق الآخرين ومشاعرهم، ولذلك أقر الإسلام مبدأ الشورى ليأخذ به أولو الأمر في كل ما يهم الأمة في مجالات الحياة المختلفة، سياسية كانت أو اقتصادية، أو اجتماعية أو عسكرية.. إلخ.
مفهوم الشورى والديمقراطية
الإسلام له طابعه الخاص بأحكامه الخاصة في كل ناحية من نواحي النشاط الإنساني، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أو غيرها، فإننا نجد بعض المتحمسين للدفاع عن الإسلام إذا وجدوا نظاما مستحسنا من أنظمة البشر في عصر من العصور لا يكتفون بمقارنته بالفكر الإسلامي باستخلاص أوجه الشبه، ولكنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك، ويصفون الفكر الإسلامي به، فنجد البعض مثلا في الناحية الاقتصادية يقول: إن الإسلام نظام اشتراكي، عندما كانت الاشتراكية تستهوي الكثير من شعوب الأرض، والبعض يقول: إن الإسلام نظام رأسمالي، عندما سيطر هذا النظام في كثير من الدول، ونجد البعض الآخر في الناحية السياسية يقول: إن الإسلام نظام ديمقراطي؛ لأن الديمقراطية سمة للحكم السياسي المستحسن، والحضارة الغربية المعاصرة قد اختارت الديمقراطية، ونظام الحكم فيها على المبدأ الديمقراطي، أن حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب، وحكم الشعب بالشعب وللشعب، وهو ما يعبر عنه في الفكر السياسي المعاصر بأن السيادة للأمة وهي مصدر السلطات، سواء في ذلك التشريع والتنفيذ والقضاء.. إلخ.
وكان على هؤلاء جميعا أن يفهموا الإسلام في حقيقته وجوهره وهدفه وغايته، وأن الله هو الذي خلق الإنسان، وهو الذي يعلم حاجة الناس جميعا ومصالحهم، والإسلام دين ودولة، ينظم الأمور الدينية والأمور الدنيوية، سواء في ذلك العقيدة أو العبادة أو القانون أو النظم السياسية والاقتصادية، فضلا عن قواعد الأخلاق والآداب.
وناط بالدولة مسئولية رعاية الأمور الدينية والأمور الدنيوية على حد سواء، ولذلك أقام الإسلام توازنا بين الجانبين المادي والروحي في حياة الإنسان، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين{ (القصص: 77).
كما أن الإسلام جعل الدنيا سبيل الإنسان إلى نعيم الآخرة أو عذابها: ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا{ (الإسراء: 72).
وهذا التكامل بين الدين والدنيا اقتضى تحقيق تكامل بين العقل والإيمان، ولذلك أطلق جمهور العلماء للعقل العنان في كافة الأمور باستثناء أمور العقيدة والعبادات والأحكام القطعية في المعاملات وغيرها، بخلاف الفكر الغربي الذي يفصل بين الدين والدولة؛ إعمالا لقول المسيح عليه السلام: «ردوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله».
ونتج عن ذلك اقتصار دور الكنيسة على الهداية الروحية والأخلاقية وشئون العبادة والعقيدة، وابتعدت عن تنظيم الأمور الدنيوية وتركتها للدولة، ونجم عن ذلك أيضا: إعلاء شأن العقل البشري في كل الأمور الدنيوية، وترك أمور الدين لدخيلة النفوس تحت رعاية الكنيسة وحدها دون تدخل من الدولة.
وهذا الفكر هو ما يوصف بالعلمانية، ولذلك توصف الحضارة الغربية بأنها حضارة علمانية، ولقد تطرف الفكر العلماني ونادى بمحاربة الدين، ووصفه بأنه أفيون الشعوب، وهو الفكر الشيوعي.
وقد ترتب على اختلاف الأصول الحضارية اختلاف الغايات والأهداف، واختلاف الوسائل والأدوات القانونية والاقتصادية والسياسية لتحقيقها، فالحضارة الغربية غايتها نفعية محضة، ففصلت بين القانون والدين والأخلاق، أما الحضارة الإسلامية فغايتها مثالية فجمعت بينهما في كيان واحد.
ولذلك وجب علينا أن نعلم مفهوم الشورى في الإسلام، ومقارنتها بالديمقراطية التي تقوم عليها نظم الحكم في الحضارة الغربية، وبيان مدى التعايش بين الشورى والديمقراطية في ظل العولمة، رغم اختلاف الأسس التي تقوم عليها الحضارتان.مفهوم الديمقراطية
من المعلوم أن نظام الحكم في أي مجتمع وفي أي عصر لا يكتب له النجاح إلا إذا استهدف تحقيق أمرين:
الأول: تمكين الفرد من المشاركة في القرارات المصيرية التي تهمه وتهم المجتمع كله.
الثاني: حصول الفرد على نصيب عادل من ثروة بلاده.
وقد اختلفت نظم الحكم في كيفية تحقيق هذين الهدفين.
فالحضارة الغربية المعاصرة اختارت الديمقراطية كوسيلة لتحقيق الهدفين، أي حكم الشعب بالشعب وللشعب، وهو ما يعبر عنه بأن السيادة للأمة وهي مصدر السلطات، ويمارس الشعب سيادته عن طريق نواب ينتخبهم ويكونون ما يسمى بالبرلمان.
ويتفرع عن المبدأ الديمقراطي مبدأ سيادة القانون كأساس للحكم، بحيث تخضع الدولة في سائر تصرفاتها للقانون، ويكون للقضاء استقلاله، وحصانته، الأمر الذي يؤدي إلى صون الحقوق والحريات العامة.
وضمانا لإعمال المبدأ الديمقراطي، يقوم نظام الحكم في الديمقراطية الغربية على مبدأ تعدد الأحزاب السياسية، سواء بصورة مطلقة أم بصورة مقيدة، فأكثرها يطلق حرية تكوين الأحزاب، سواء نادت بمبادئ وبرامج تتفق مع الدستور، أم تخالفه، وبعض البلاد الغربية يقيد حرية الأحزاب فيما تدعو إليه من مبادئ، وبجانب التعددية الحزبية وضع آليات وأدوات قانونية تسمح بتداول السلطة بين الأحزاب في سهولة ويسر تبعا لما تسفر عنه الانتخابات. فالشعب في ظل النظام الديمقراطي له السيادة الكاملة، فبرأيه توضع القوانين وتغير، فكل قانون يرفضه عقل الشعب فباستطاعته إلغاؤه، وسن قانون جديد يتلاقى مع أهدافه وأمانيه.مفهوم الشورى
وضع الإسلام مبادئ عامة لنظام الحكم من أهمها: مبدأ الشورى، ولم يحدد الإسلام طريقة معينة للشورى لا يصح سواها، وإنما ترك ذلك للمسلمين أنفسهم يختارون ما يتناسب مع ظروفهم وعصرهم.
والإسلام لأنه الدين الخاتم، لم يترك أي سلوك من سلوك الإنسان إلا وبين الحكم الشرعي فيه، ولكن لأن الوقائع والقضايا والأحداث غير محدودة، فإننا نجد أن الشريعة الإسلامية تبين الحكم بالتفصيل في الأمور التي لا تتغير فيها وجوه المصلحة من عصر إلى عصر، كتقسيم التركات، والعقوبات، وحقوق الزوج والزوجة، وواجبات كل منهما، ونظام الوصية... إلخ كل ذلك لم يتركه الله لاجتهادات البشر، بل بينه الإسلام وفصله.
أما الأمور التي تتغير فيها وجوه المصلحة في التفاصيل من عصر إلى عصر، فإننا نجد الإسلام يبين فيها الأصل العام، والقواعد العامة التي تنظم حياة الإنسان وأنشطته في الاقتصاد، معاملات الناس، السياسة، الحكم، العلم، الفكر... وسائر مناحي الإنسان وحركته في المجتمع البشري، تؤصل للشريعة في هذه المجالات قواعد عامة، تقصد إلى تحقيق مصالحهم الدنيوية والأخروية، وتترك للناس لتحقيق ذلك حرية اختيار الصورة الملائمة لهم، ويتجلى ذلك مثلا في إيجاب الإسلام أن تتحقق العدالة بين الناس، فالدولة الإسلامية ترتكز على قواعد: إحداها العدل، ولكن كيف يتحقق العدل، لم يحدد للناس شكلا معينا، بل أوجب على المسلمين أن يقيموا القضاء بينهم على أي صورة كان ذلك القضاء، ما دام الغرض المنشود قد تحقق، وهو تحقيق العدل بين الناس، فالقرآن والسنة يبينان وجوب أن تشمل العدالة كل أنحاء الدولة الإسلامية، حتى في التعامل مع الأعداء.
لكن هل يكون تحقيق العدل عن طريق تخصيص قضاة للقضايا الجنائية، وآخرين للمسائل المدنية، وآخرين للأحوال الشخصية.. إلخ. أم يكون ذلك بغير هذا التخصيص؟ ذلك متروك إلى الدولة، تختار فيه ما تراه مناسبا لها، ما دام أمر الشارع في النهاية متحققا، وهو العدل بين أفراد البشر مسلمين وغير مسلمين، بشرط أن يكون الإطار العام الذي يضم هذا النظام إسلاميا حقيقيا خاضعا للقواعد والأصول العامة التي قررتها شريعة الإسلام، لا تشوبه شائبة في صفاته وسمو غرضه.
والشورى مبدأ أوجبه الله في القرآن: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر{ (الشورى: 38). ونزلت هذه الآية في امتداح خصال الأنصار.
وأكدت السنة القولية والفعلية هذا المبدأ الإسلامي من ذلك حديث: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» (ابن أبي شيبة في المصنف 5/298 وضعفه الألباني)، «استعينوا على أموركم بالمشاورة»، «ما ندم من استشار ولا خاب من استخار» (الطبراني في الأوسط (6/365) وقال الألباني: موضوع).
وأحداث التاريخ تقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير المشورة، وجرى الخلفاء الراشدون على ذات النهج في المشاورة، وهذا ما سنفصله في المقال القادم مع كيفية حدوث الشورى.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.